کد مطلب:370260 دوشنبه 21 خرداد 1397 آمار بازدید:581

الفصل الأول علی (علیه السلام) وشعارات الخوارج












الصفحة 320












الصفحة 321


شعارات «الخوارج»:


إن شعارات «الخوارج» كانت دینیة فی ظاهرها، ورنانة ومثیرة، وقادرة على أن تجتذب إلیها أولئك الناس الذین ینطلقون فی مواقفهم من خلال مشاعرهم وأحاسیسهم. ولا یملكون من المعاییر الفكریة ما یمكنهم من تقییم الأمور بطریقة صحیحة وموضوعیة.


بل كانت تلك المشاعر والأحاسیس تختلس منهم فرصة التفكیر الهادئ والرصین، لتكون ترجمتها هیجاناً عارماً، وفتكاً فظیعاً، وبطشاً بشعاً ومریعاً.


ویزید هذه الشعارات تأثیراً فی عنف حركة «الخوارج» هو كونها تنطلق فی تلك المناخات الموبوءة والمریضة، وفی ظل مظاهر الانحراف الأموی عن جادة الحق والدین.


بالإضافة إلى: أن تلك الشعارات كانت تتناغم مع مشاعر الشباب الذین یمیلون إلى التمرد، وحب الاستقلال، والرغبة بالاضطلاع بأعمال كبیرة، تجذب أنظار الآخرین. وغیر ذلك من حالات تختزنها شخصیة الشباب الناشئ، والحدث الذی لم یجرب الأمور، بل یندفع إلیها برعونة وطیش، وبلا حساب.












الصفحة 322


ولعل هذه الشعارات وتلك العواطف الجیاشة فی مثل هاتیكم المناخات كانت هی السبب فی بقاء «الخوارج» فی أصلاب الرجال ـ كما أخبر به علی (علیه السلام) ـ فكانت تظهر بصورة وبأخرى فورات تتمیز بالعنف والطیش والرعونة، ثم تخمد تحت وطأة الضغوط والظروف الموضوعیة، التی تنشأ من حالات الفعل وردات الفعل، مما لم یكونوا یحسبون له حسابات صحیحة أو كافیة لاستیعاب تداعیات الحدث الذی یثیرونه فی الواقع العام.


وهكذا.. فقد كانت تلك الشعارات تسقط أمام ضغط الواقع، وتتلاشى فی زحمة نزوات الأهواء، وعثرات المیول ـ وینتهی الأمر بحاملی تلك الشعارات إلى أن یصبحوا ـ حسبما تنبأ به علی أمیر المؤمنین (علیه السلام) ـ فی نهایة الأمر لصوصا سلابین.


سمات.. وحالات:


وإذا أردنا أن نستعرض سمات وحالات «الخوارج» فی النصوص التاریخیة، فسنجد ـ كما قد تقدم فی تمهید الكتاب: أن من هذه الصفات والحالات التی عرفوا بها:


أن السنتهم ذلیقة بالقرآن..


وأن لهم سمت وخشوع.


وأنهم یحسنون القیل.


ویسیئون الفعل.


وأنهم یسألون كتاب الله، وهم أعداؤه.


ویدعون إلى كتاب الله، ولیسوا منه فی شیء.












الصفحة 323


وأن جباههم سود من كثرة العبادة..


وأن شعارهم هو: لا حكم إلا لله.


وأن ازرهم تكون إلى نصف الساق. وان سیماهم التحلیق. أو التسبیل.


إلى غیر ذلك مما یجده المتتبع لسیرتهم وأحوالهم.


بین الواقع والشعار:


وإذا راجعنا الأحادیث الواردة عن رسول الله (صلى الله علیه وآله) فی وصف «الخوارج»، وبیان علاماتهم وصفاتهم، فإنها تفیدنا: أن على الإنسان المؤمن والواعی أن لا ینخدع بالمظاهر، وان لا یعتبرها المیزان والمعیار فی الحق والباطل، وفی الصلاح والفساد، وأن علیه أن لا ینساق وراء الشعارات الثوریة والبراقة. ما لم یتأكد من محتوى الشعار وخلفیاته.


أی أن علیه أن یرصد حركة الواقع بدقة ووعی لیتعرف على دوافع إطلاق الشعار، وعلى العوامل التی أفرزت تلك المظاهر.


وقد كان أصحاب الطموحات، وطلاب اللبانات وما زالوا یحاولون الاستفادة من شعارات مغریة، وأسالیب ذات طابع إنسانی، أو دینی فی سبیل الوصول إلى مآرب، وتحقیق أهداف لا تنسجم ولا تتلاءم معها، إن لم تكن أقرب إلى الانحراف والخیانة واللصوصیة منها إلى الإنسانیة والشرف والدین.












الصفحة 324


أمیر المؤمنیین (علیه السلام) وشعارات «الخوارج»:


وقد كان أمر «الخوارج» واضحاً بیناً لكل من مارس الأمور، وأحكمته التجارب، وجرى وفق المعاییر الصحیحة فی فهم الأمور وتقییمها.


ومن هنا، فإننا نجد أمیر المؤمنین (علیه السلام) قد بذل محاولات مضنیة وكبیرة فی سبیل تعریف «الخوارج» على مواقع خطئهم فی فهم الأمور. وقد ناظرهم، وأقام علیهم الحجة، فرجع منهم إلى الحق من رجع، وهم كثیرون، وبقیت ثلة كبیرة منهم، لم یرتدعوا عن غیهم، رغم أنه (علیه السلام) قد أوضح لهم أنه: لم یحكم الرجال فی دین الله، وإنما حكم القرآن، لأن حكم الكتاب واحد(1).


وقد أدان هذا النوع من العمل، وهذه الطریقة من الممارسة وأوضح حقیقة ما یرمون إلیه حین أعلن أن شعارهم الذی یقول: لا حكم إلا لله كان مجرد خدعة، رسمت معالمها عن سابق علم وتصمیم، وأطلق كلمته التی ذهبت مثلاً: «كلمة حق یراد بها باطل»(2).


____________



(1) راجع: المعیار والموازنة ص 172 و177 و199 وكنز العمال ج11 ص 291 عن ابن أبی حاتم فی السنة. والبیهقی فی الأسماء والصفات والأصبهانی واللالكائی.


(2) راجع: مسند أحمد ج5 ص 44 و36 والمعیار والموازنة ص 170 وكنز العمال ج11 ص 180 و294 ورمز للمصادر التالیة: [حم. ق. ط وابن جریر] ومجمع الزوائد ج 6 ص 230 عن أحمد، والبزار والطبرانی، وتاریخ بغداد ج1 ص 160 وج10 ص 305 وفرائد السمطین ج1 ص 277 والبدایة والنهایة ج7 ص 292 والخصائص للنسائی ص 139.


ونظم درر السمطین ص 116 وكشف الغمة ج1 ص 264 ومناقب آل أبی طالب ج3 ص 188 وذخائر العقبى ص 110 وعن تاریخ الیعقوبی ج2 ص 191 وعن الاشتقاق ص 220 والریاض النضرة ج3 ص 224 والثقات ج2 ص 295 وتذكرة الخواص ص 99 ونهج البلاغة ج3 ص 197 وج1 ص 87 وبشرح النهج للمعتزلی ج1 ص 104 والكامل لابن الأثیر 3/334 و335.













الصفحة 325


فقد روی، عن أبی إسحاق، قال:


لما حكمت الحروریة قال علی (علیه السلام): ما یقولون؟.


قیل: لا حكم إلا لله.


قال: الحكم لله، وفی الأرض حكام، ولكنهم یقولون: لا إمارة، ولابد للناس من إمارة یعمل فیها المؤمن، ویستمتع فیها الفاجر، والكافر، ویبلغ الله فیها الأجل(1).


وعن قتادة قال: لما سمع علی المحكِّمة قال:


من هؤلاء؟!.


قیل له: القراء.


قال: بل هم الخیابون العیابون.


قیل: إنهم یقولون: لا حكم إلا لله.


قال: كلمة حق عزی بها [أو أرید بها] باطل الخ.. (2).


فهذه الشعارات التی كانوا یطلقونها، والتی كانت تفعل فعل السحر فی نفوس السذج والبسطاء من الناس. قد جعلت استجابة هؤلاء، الناس إلیهم، سریعة ورعناء، ومن دون أن یكلف المستجیبون أنفسهم عناء


____________



(1) المصنف ج10 ص 150 وكنز العمال ج11 ص 286 و309 ورمز له بـ [عب. ق. ش] وراجع: العقد الفرید ج2 ص 388 وراجع: أنساب الأشراف ج2 ص 377 [بتحقیق المحمودی] ونهج البلاغة ج1 الخطبة رقم 40 وفجر الإسلام ص 259.


(2) المصنف للصنعانی ج10 ص 150 والمعیار والموازنة ص 170 وكنز العمال ج11 ص 273 وفی هامشه عن منتخب كنز العمال، وعن جمع الجوامع، وعن الجامع الكبیر.


والكلمة الأخیرة فی كنز العمال 11/281 عن [ابن وهب. م. ابن جریر. أبی عوانة. حب. ابن أبی عاصم. ق].













الصفحة 326


التأمل والتفكیر فی ابعاد تلك الشعارات وخلفیاتها، ومنطلقاتها، وركائزها العقائدیة، ومدى صحتها، إن كان ثمة أساس أو مرتكز عقائدی وإیمانی لها.


والذی ساعد على ذلك: أن الذین كانوا على مستوى مقبول من الثقافة والمعرفة، وكان یمكنهم تعریف الناس على حقائق الأمور، كانوا غیر موجودین فی صفوف «الخوارج»، وإذا كان منهم من لدیه شیء من المعرفة، فإنه كان قد اختار طریق الانحراف، وكان یعمل على انتهاز الفرصة لتحقیق طموحاته ومآربه.


وقد روى سعید بن جمهان قال:


كنا مع عبد الله بن أبی أوفى، یقاتل «الخوارج» ـ وقد لحق غلام لابن أبی أوفى بالخوارج ـ فنادیناه:


یا فیروز، هذا ابن أبی أوفى!.


قال: نعم الرجل لو هاجر.


قال: ما یقول عدو الله؟.


قال: یقول: نعم الرجل لو هاجر.


فقال: هجرة بعد هجرتی مع رسول (صلى الله علیه وآله)؟ یرددها ثلاثاً ـ سمعت رسول الله (صلى الله علیه وآله) یقول: طوبى لمن قتلهم، ثم قتلوه. قال عفان فی حدیثه: وقتلوه، ثلاثاً(1).


وعن أبان قال: خرجت خارجة من البصرة، فقتلوا، فأتیت أنساً: فقال: ما للناس فزعوا؟


____________



(1) مسند أحمد ج4 ص 382 و357.













الصفحة 327


قلت: خارجة خرجت.


قال: یقولون ماذا؟!.


قال: قلت: یقولون: مهاجرین.


قال: إلى الشیطان هاجروا، أو لیس قد قال رسول الله (صلى الله علیه وآله): لا هجرة بعد الفتح(1).


ومهما یكن من أمر فإن ما قام به (علیه السلام) من تعریف الناس على خلفیات تلك الشعارات، وبیان زیفها لهم قد آتى ثماره، حیث لم یستطع زعماء «الخوارج» أن یربحوا إلى صفوفهم إلا الأحداث والجهال الذین لیس لدیهم أثارة من علم، ولا سابقة فی الإسلام. وقد رجع الألوف من نفس أولئك الذین خدعوهم بشعاراتهم فی بادئ الأمر ـ رجعوا بسبب ـ ما ظهر لهم، بعد أن أقام (علیه السلام) علیهم الحجة، وجلىّ لهم الحقیقة.


وقد رأینا: أن أنساً، وابن أبی أوفى اللذین كانا على اطلاع تام بما جرى بین علی (علیه السلام) وبین «الخوارج»، وباحتجاجاته (علیه السلام) علیهم، وبإیضاحاته المتتالیة لفساد ما یستندون إلیه، وما یعتمدون علیه ـ قد رأینا ـ أنهما قد اتخذا الموقف الصحیح من تلكم الشعارات الخادعة. وأعلنا للناس بفسادها تأسیاً بعلی (علیه السلام).


تفصیلات عن موقف علی (علیه السلام):


وبعد.. فإن مراجعة حیاة أمیر المؤمنین (علیه السلام) وسیرته تفیدنا:


____________



(1) المصنف ج10 ص 152.













الصفحة 328


1 ـ إنه (علیه السلام) قد رفض هذه الأسالیب فی التعامل فی جمیع أدوار حیاته، ولم ینس «الخوارج»، ولا غیرهم، رفضه (علیه السلام) لمكیدة رفع معاویة وجیشه للمصاحف فی صفین(1).


ثم إنه قد أطلق فی حرب الجمل كلمته المشهورة الأخرى، حینما قال: إنما یعرف الرجال بالحق، ولا یعرف الحق بالرجال.


وقال: إعرف الحق تعرف أهله(2).


2 ـ قد یقال: إن علینا أن نفهم موقف «الخوارج» على أنه منطلق من شبهة دخلت علیهم، أو جعلتهم یشكون فی صواب مواقف علی (علیه السلام) فاتخذوا على أساس ذلك مواقف حادّة، تنطلق من حقد یجیش فی صدورهم، ثم خالط ذلك حب الدنیا، والطموح إلى الحصول على شیء من حطامها، ولاسیما لدى زعمائهم..


ونقول فی مقام توضیح ذلك وتصحیحه: إن علینا أن نضیف إلى ذلك أیضاً: أنه یفهم من الروایات الواردة عن رسول الله (صلى الله علیه وآله) أن الجهل الذریع، إذا استحكم فی الإنسان، وخالطه شیء من العجب بالنفس نتیجة لقراءتهم القرآن من دون تدبر، وعبادتهم المضنیة من دون خشوع، فإنه یؤدی إلى الهلاك المحتم، وإلى الدمار المریع، ویهلك ذلك الحرث والنسل، حیث یكون ذلك سبباً فی أن یصبح الهوى شریعة، والانحراف دیناً، ولا یبقى ثمة میزان یعرف فیه الحق من


____________



(1) لا یحتاج ذلك إلى مصادر فإن أغلب من تحدث عن صفین ذكر ذلك عنه (علیه السلام).


(2) كتاب الأربعین للشیخ الماحوزی ص 84 و195 والطرائف ص 5 والبحار ج27 ص 279 وج4 ص 126 ومستدرك سفینة البحار ج2 ص 344 والمعیار والموازنة ص 5 والتدقیق الربانی ص 195.













الصفحة 329


الباطل، والدین من اللادین، وتتحكم بمصیر الأمة الأهواء الطاغیة، والطموحات الباطلة. والنزوات والشهوات..


3 ـ إن الأمر الصادر بقتل هؤلاء رغم تظاهرهم بالعبادة، وبقراءة القرآن، لا یبقی مجالاً للتعلل، والقعود، والسكوت عن الانحراف بحجة: أن جهلهم عذر لهم، وان إسلامهم وعبادتهم سیاج وحصن لهم یلوذون به ویلجأون إلیه..


وحتى لو فرضنا: أنهم مقتنعون بمواقفهم، فإن قطعهم ویقینهم لا یبرر مواقفهم الخاطئة التی تمس فی خطئها جوهر الدین، أو على حساب حیاة ووحدة واستقرار، وطمأنینة، وانتظام أمور المسلمین جماعات، وأفرادا..


بل إن علیهم أن یلتزموا خط الطاعة والانقیاد لولی أمرهم العارف بالدین، والصادع بالحق، الذی هو مع الحق والحق معه، یدور معه حیثما دار.


وحتى لو كان ذلك یصدر منهم من منطلق رؤیتهم لأنفسهم، بأن لهم الحق فی أن یجتهدوا، وأن یقرروا، ولو على تقدیر تصنیفهم فی دائرة الجاهل المركب. أو رؤیة الناس لهم، على أنهم قد اجتهدوا فأخطأوا، وأرادوا الحق، فوقعوا فی الباطل، بحسن نیة، وسلامة طویة، فإن ذلك كله لا یصلح عذراً لهم فی معصیة إمامهم، ثم الولوغ فی دماء المسلمین بهذه الطریقة البشعة، كما أنه لا یصلح للاعتذار به عن التصدی لفسادهم وانحرافهم، ودفع غائلتهم، ومنعهم من الفساد فی الأرض، وفی الدین.












الصفحة 330


4 ـ إنه نتیجة لجهل هؤلاء بالدین وأحكامه قد ارتكبوا فی حق الأمة والدین تلك الجرائم والعظائم. وهذا یشیر إلى أن خطر الجهل یفوق كل خطر، حتى إنه قد یودی بحیاة أمم وأجیال، ویكرس الانحراف لیصبح سنة قائمة، وشریعة دائمة..


5 ـ إن الجاهل إذا اتخذ سبیل النسك، والعبادة، طریقاً له فانه لا یخدع الناس بمظاهره وحسب، بل إنه هو نفسه أیضاً ینخدع بنفسه حیث یتخیل أنه قد وصل إلى درجات عالیة لم یصل إلیها غیره، وأنه أصبح یمثل إرادة الله سبحانه على الأرض، وتصبح لدیه الجرأة على التصدی لأعمال، لم یكن یجرؤ على التفكیر فیها من قبل، ویقدم على مواقف خطیرة، قد تمس مصیر الأمة بأسرها، وقد یعطی لنفسه الحق بان یقول فی الدین، ویصدر الفتاوى ویبتكر النظریات فیه، فیخبط خبط عشواء، وتظهر من جراء ذلك البدع، وتصبح الأهواء شریعة، والشهوات دیناً..


وینخدع بمثل هؤلاء السذج والبسطاء، حیث یرون هؤلاء الجهلة عباداً ونساكاً، ویدعون لأنفسهم العلم والمعرفة، ویطلقون الشعارات البراقة والخادعة، ویصورون لهم أنفسهم على أنهم هم القیمون على الدین، وعلى شریعة سید المرسلین.. كما كان الحال بالنسبة للخوارج موضع بحثنا هنا..


ومن ذلك كله نعرف بعضاً من المغزى العمیق، الذی تشیر إلیه كلمة علی أمیر المؤمنین (علیه السلام): «قصم ظهری اثنان: عالم متهتك.












الصفحة 331


وجاهل متنسك»(1).


كما أننا مما تقدم وسواه ندرك بعض السر لما روی عن رسول الله (صلى الله علیه وآله) فی حق «الخوارج»، من أنهم:


شر الخلق والخلیقة، یقتلهم خیر الخلق والخلیقة(2).


وفی لفظ آخر: یقتلهم خیار أمتی، وهم شرار أمتی(3).


6 ـ إن الجریمة التی ارتكبها «الخوارج» فی حق الدین والأمة، والتی ستبقى آثارها إلى یوم القیامة.. بسبب جهلهم، وانقیادهم لأهوائهم، وإظهارهم النسك والعبادة ووو.. الخ..


إن هذه الجریمة تفوق فی هولها وفظاعتها وعمقها كل جریمة على الإطلاق، حتى استحقوا أن یصفهم الرسول (صلى الله علیه وآله) بأنهم شر الخلق والخلیقة.


فلو أنهم لم یقفوا ذلك الموقف حین رفع معاویة وجیشه المصاحف، وسمعوا قول إمامهم، وامتثلوا أمره بمواصلة الحرب، حتى تفیء الفئة الباغیة لأمر الله سبحانه، لتغیر مجرى الحوادث فی التاریخ، ولكانت اجتثت الشجرة الخبیثة من فوق الأرض، ولم یبق لها ثمة من قرار..


____________



(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلی ج20 ص 284.


(2) مناقب علی بن أبی طالب لابن المغازلی ص 56 وأرجح المطالب ص 599 ط لاهور وعن مجمع الزوائد ج6 ص 239 والشیعة فی التاریخ ص 42 عن مسند احمد بن حنبل عن مسروق عن عائشة وقریب منه عن تاریخ بغداد ج1/160 وشرح النهج للمعتزلی ج2/267.


(3) مجمع الزوائد ج6 ص 239 عن البزار والطبرانی فی الأوسط وفی المحاسن والمساوئ ج2 ص99: أن النبی (صلى الله علیه وآله): عن ذی الثدیة: أنه یقتل مع شر جیل یقتلهم خیر جیل.













الصفحة 332


كما أن موقفهم بعد ذلك من أمیر المؤمنین (علیه السلام)، وإفسادهم فی الأرض، حتى انجر ذلك إلى حربهم، قد جعل العراقیین یملون الحرب، ویتثاقلون عنها، بعد أن قتلوا آباءهم وابناءهم وإخوانهم فی النهروان، فلم یستجیبوا لدعوة أمیر المؤمنین (علیه السلام) لهم للنفر إلى حرب القاسطین، وهم معاویة وحزبه من جدید.


ثم إنهم قتلوا أمیر المؤمنین علیاً صلوات الله وسلامه علیه، غیلة بعد ذلك.. فمكنوا لمعاویة، ولكل من هم على شاكلته من أن یستمروا فی خططهم لهدم الإسلام، وطمس معالمه، وتسخیر كل شیء فی سبیل أهواءهم ومصالحهم.


وقد كانت تلك خدمة جلیلة أسداها «الخوارج» للحكم الأموی، ولكل المنحرفین عن خط الرسالة، وعن أهل بیت النبوة، علیهم الصلاة والسلام. دون أی مقابل.. سوى ما جروا على أنفسهم، وعلى الأمة، وعلى الدین من ویلات وكوارث.


ویبتلی «الخوارج» بعد وفاة أمیر المؤمنین بمحاربة نفس هذا الحكم الذی مكنوا هم أنفسهم له. فیكیلون له ویكیل لهم الضربات القاصمة.


7 ـ إن ما ورد فی الروایات عنه (صلى الله علیه وآله) من كونهم یمرقون من الدین مروق السهم من الرمیة، یدل على أنهم لیسوا على شیء من الدین، وأنهم قد خرجوا منه كما دخلوا فیه.


إذن فاعتبارهم على شیء من الدین والإسلام، لا یتناسب مع هذه الروایات، ولا ینسجم معها. وقد قال الجاحظ رداً على من كان یحمد الله على أنه لم یشهد حروب الجمل، وصفین، والنهروان، وفتنة ابن الزبیر.












الصفحة 333


إنا لا نعرف لبعض ما قال وجهاً، لأنك لا تعرف فقیهاً من أهل الجماعة لا یستحل قتال «الخوارج»، كما أنا لا نعرف أحداً منهم من لا یستحل قتال اللصوص. وهذا ابن عمر ـ وهو رئیس الحلسیة بزعمهم ـ قد لبس السلاح لقتال نجدة(1).


ونحن لا نوافق الجاحظ على الفقرة الأخیرة، فإن ابن عمر قد وافق نجدة وصلى خلفه، كما سنرى.


8 ـ إن قوله (علیه السلام): «نعم، إنه لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء یقولون: لا إمرة إلا لله، وإنه لا بد للناس من أمیر الخ»(2).


یفیدنا أن الخوارج یرون: أنه لیس للحاكم أن یتصرف أی تصرف یرى فیه صلاح المسلمین ودفع شر أعدائهم. وفی هذا تعطیل لدوره كحاكم. فهم إذن یریدونه مأموراً للرعیة لا آمراً. فأوقعهم ذلك فی الخطأ والتناقض، فهم أنفسهم لا یمكنهم أن یضبطوا أمورهم إلا بواسطة تعیین حاكم وأمیر لهم، وكانوا یفعلون ذلك، ولا یصبرون على العیش بدونه، بل لا یتهیأ لهم ذلك ولا یقدرون علیه. ولكنهم یصرون على أمیر المؤمنین أن لا یتصرف كأمیر وحاكم، زاعمین له أن حق الحاكمیة: إنما هو لله فلا یصح لغیره أن یتصرف!!.


9 ـ والغریب فی الأمر: أنهم قد خلطوا أیضاً بین التحكیم وبین الحاكمیة مع أن التحكیم غیر الحاكمیة، فإنه یمكن التحكیم والطلب من الحكمین أن یحكما بموجب القرآن، وهذا لیس معناه: أنهما قد


____________



(1) البیان والتبیین ج3 ص 130.


(2) شرح نهج البلاغة ج2 ص307 وفجر الإسلام ص 259.














الصفحة 334


جعلا الحكمین حاكمین فی قبال الله، فإن اكتشاف الحكم من القرآن لا یعنی الحاكمیة والإمرة للمكتشف..


قال المعتزلی بعد أن ذكر أن قول یعقوب: إن الحكم إلا لله معناه: أنه إذا أراد شیئاً من أفعال نفسه فلا بد من وقوعه، بخلاف غیره من القادرین بالقدرة، فالذی ینفذ مراده لما هو من أفعاله، هو الله تعالى فقط، قال: «فهذا معنى الكلمة، وضلت «الخوارج» عندها، فأنكروا على أمیر المؤمنین (علیه السلام) موافقته على التحكیم، وقالوا: كیف یحكم وقد قال الله سبحانه: (إن الحكم إلا لله)؟ فغلطوا لموضع اللفظ المشترك. ولیس هذا الحكم هو ذلك الحكم، فإذن هی كلمة حق یراد بها باطل، لأنها حتى على المفهوم الأول، یرید بها «الخوارج» فی كل ما یسمى حكماً إذا صدر عن غیر الله تعالى. وذلك باطل لأن الله تعالى قد أمضى حكم المخلوقین فی كثیر من الشرائع»(1).


وحسبنا ما ذكرناه هنا، فان ما سوف نشیر إلیه إن شاء الله فی ثنایا هذا الكتاب یكفی لإعطاء تصویر على درجة من الوضوح عن هذه الفئة، وذلك بالمقدار الذی یسمح لنا به الوقت المحدود، والفرصة المتاحة، وما توفره لنا النصوص التی أفصح لنا عنها تاریخ هذه الفئة، وأمكننا الرجوع إلیها. والحصول علیها.


____________



(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلی ج9 ص 17.













الصفحة 335


الموقف الرسالی:


عن كثیر بن نمر، قال: دخلت مسجد الكوفة عشیة جمعة، وعلی یخطب الناس، فقاموا فی نواحی المسجد یحكمون. فقال بیده: هكذا، ثم قال: «كلمة حق یراد بها باطل، حكم الله أنتظر فیكم. أحكم فیكم بكتاب الله، وسنة رسوله، وأقسم بینكم بالسویة، ولا نمنعكم من هذا المسجد أن تصلوا فیه، ما كانت أیدیكم مع أیدینا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا»(1).


و فی نص آخر: «لكم علینا ثلاث، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فیها اسم الله، ولا نمنعكم الفیء ما دامت أیدیكم مع أیدینا، ولا نبدؤكم بقتال»(2).


ومن الواضح: أن أدنى ما یمكن توقعه من أی حاكم من الحكام الزمنیین، الذین رأینا عبر القرون والأحقاب أنحاء تعاطیهم مع أمور كهذه هو ـ أنه حین یواجه أمثال هؤلاء، ویكون فی موقف كهذا، أن یأمر باعتقال كل الذین یطلقون شعاراً یسیء إلى حكمه، وإلى موقعه, ثم یحاسبهم ویعاقبهم بالصورة التی تضمن عدم تكرار ذلك منهم، بحیث یكون ذلك عبرة لغیرهم.


ولكن أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام) ـ وهو الحاكم الإلهی المعصوم ـ لا یقیم وزناً للحكم بما هو حكم؛ لأن الحكم عنده إنما هو


____________



(1) مجمع الزوائد ج6 ص242 و 243 وراجع الإلمام ج1 ص36 وراجع أنساب الأشراف ج2 ص 325 [بتحقیق المحمودی].


(2) المبسوط ج7 ص269 وراجع: الإباضیة عقیدة ومذهباً ص39 عن فتح الباری ج12 ص301 وراجع البدایة والنهایة ج7 ص282 و285 والكامل لابن الأثیر ج3 ص335.













الصفحة 336


وسیلة لإقامة الحق، ودفع الباطل. فلیس الحكم بما هو حكم امتیازاً، وإنما هو مسؤولیة وأمانة، لابد من القیام بها على أحسن وجه، وأدائها إلى أصحابها.


ومن هنا.. یصبح من الطبیعی أن نجده (علیه السلام) لا ینطلق فی مواقفه من مبدأ هیبة الحكم، وهیمنة السلطان، ولا یعاقب على الجرأة على ذلك ولا یهتم له. فان ذلك لیس إلا مجرد اعتبارات وعناوین صنعها ضعف الإنسان، وصورها له خوفه من فقدان ما یراه امتیازاً شخصیاً له.


أما علی (علیه السلام) فإنه ـ یسجل مبدأه فی التعامل مع الآخر، وأنه من موقع التكلیف الشرعی والمسؤولیة الإلهیة، فلا تثیره تلك الشعارات، ولا تخرجه عن حالة التوازن، بل هو یقرر القاعدة الإسلامیة التی تقوم على الأسس الأربعة التالیة:


1 ـ الحكم فیهم بكتاب الله، وسنة نبیه.


2 ـ یقسم بینهم الفیء بالسویة.


3 ـ لا یمنعهم من مساجد الله سبحانه أن یصلوا فیها، ما دامت أیدیهم مع أیدیهم.


4 ـ لا یبدؤهم بقتال حتى یبدؤوه.


لماذا هذه الأربعة:


ویبقى أن نشیر هنا إلى سر التركیز على هذه الأصول الأربعة دون غیرها، فإن ذلك واضح، من حیث أنه یمس حیاة الناس، ویلامس وجودهم ومصیرهم فالمطلوب من أی حاكم كان أن لا یتجاوز هذه












الصفحة 337


الأصول الأربعة. فإن الرعیة إنما تطلب من الحاكم أن یتعامل معها على أساس ضوابط محددة ومقبولة. ولا یسعدها أن یتعامل معها على أساس نوازعه الشخصیة، وطموحاته وأهوائه، لأنها لا تجد فی ذلك حلاً لمشاكلها التی تعانی منها، إن لم تجد فیه ما یزیدها شقاءً وبلاء وعناءً..


وهی أقرب إلى التسلیم والانقیاد والوثوق بما یأتیها من قبل الله سبحانه، الذی عرفته خالقاً مدبراً، حكیماً، عالماً بكل صغیرة وكبیرة، لا یرید لها إلا الخیر، ولا یجر نفعاً إلى نفسه سبحانه، ولا یخالجها أدنى شك بصواب تدبیره، وصحة تشریعاته.


وبالنسبة للأصل الثانی، فإنه قد جاء موافقاً لواقعیة النظرة الإسلامیة، فی مجال العدالة الاجتماعیة، مادام أن المقتضی لقسمة الفیء، والهدف منه لا یختلف من شخص لآخر، ولا من فریق بالنسبة إلى غیره. بعد أن شارك الجمیع وساعدوا فی الحصول على ذلك الفیء، بعد أن كانت مبررات إنفاقه فیهم متساویة من حیث الهدف والمنشأ على حد سواء.


وبالنسبة للأصل الثالث، فإنه هو الذی ینسجم مع أصل الحریة المشروطة، التی هی منحة إلهیة للإنسان على أساس حفظ أصول التعایش، والحفاظ على المصالح المشتركة لابناء بنی الإنسان، فهم أحرار فی مجال الاستفادة من المرافق العامة، مادام أن هذه الاستفادة توجب القوة والمنعة، وتذلیل الصعاب..


أما إذا أصبحوا فی موقع التآمر، والعداء، فإن وجودهم فی المساجد حینئذ یصبح سبباً فی التشتت والخلاف، والتمزق والضعف، وإشاعة حالة النفاق والنمیمة، والاطلاع على مواضع الضعف والقوة، ومعرفة












الصفحة 338


الثغرات التی یمكن من خلالها تسدید الضربات للقوى الصالحة والمؤمنة.


وحول الأصل الرابع والأخیر، نقول: إن ذلك هو ما تملیه المسؤولیة الشرعیة وأخلاق الإسلام وتعالیمه. فان الحاكم، لابد أن یرعى حالة الأمن للأمة بطریقة صحیحة.


ومن الطبیعی أن یكون لاحتمالات شن الحكم حرباً على الرعیة بصورة ابتدائیة، وبمبادرة غیر مسبوقة، سیجعل الناس یعیشون حالة الرعب والخوف، وعدم الثقة بالحكم وبالحاكم، ویفسح المجال ـ من ثم ـ لمن فی قلوبهم مرض لإشاعة هذه الحالة، وتشكیك الناس بنوایا الحكم والحاكم تجاههم فی أی وقت بلا مبرر ولا جهة.


ولا یعود للحكم ولا للحاكم تلك القداسة، ولسوف تختل الرابطة بینهم وبینه، والتی لابد أن تقوم على أساس الحب والثقة. فلا حب بعد ولا ثقة، ولا یعود الحكم هو الحامی والحافظ، والملجأ لهم والملاذ.


الإمتحان.. والناجحون والمخفقون:


عن أبی سعید الخدری: أن أبا بكر جاء إلى رسول الله (صلى الله علیه وآله)، فقال: یا رسول الله، إنی مررت بوادی كذا وكذا، فإذا رجل متخشع حسن الهیئة، یصلی.


فقال له النبی (صلى الله علیه وآله): إذهب إلیه، فاقتله.


قال: فذهب إلیه أبو بكر، فلما رآه على تلك الحال كره أن یقتله، فرجع إلى رسول الله (صلى الله علیه وآله).


قال: فقال النبی (صلى الله علیه وآله) لعمر: إذهب فاقتله.












الصفحة 339


فذهب عمر: فرآه على تلك الحال التی رآه أبو بكر، قال: فكره أن یقتله.


قال: فرجع، فقال: یا رسول الله، إنی رأیته یصلی متخشعاً، فكرهت أن أقتله.


قال: یا علی، إذهب فاقتله.


قال: فذهب علی فلم یره، فرجع علی، فقال: یا رسول الله لم أره.


فقال النبی (صلى الله علیه وآله): إن هذا وأصحابه یقرؤون القرآن لا یجاوز تراقیهم، یمرقون من الدین كما یمرق السهم من الرمیة، ثم لا یعودون فیه حتى یعود السهم فی فوقه فاقتلوهم هم شر البریة(1).


وعند البزار وغیره: أن أبا بكر وعمر قد تبرعا بأن یقتلاه، فأذن لهما رسول الله، فرجع كل واحد منهما وقال: إنی وجدته یصلی، فلم استطع أن اقتله.


تقول الروایة: «فقال علی: أفلا أقتله أنا یا رسول الله.


قال: بلى، أنت تقتله إن وجدته.


فانطلق علی، فلم یجده».


وحسب نص الصنعانی: أنت له، إن أدركته! ولا أراك أن تدركه.


____________



(1) مسند احمد ج3 ص15 وراجع: المصنف للصنعانی ج10 ص 155 و156 ومجمع الزوائد ج6 ص 225 و226 و227 والبدایة والنهایة ج7 ص 299 وشرح النهج للمعتزلی ج2 ص266/267. والكامل فی الأدب ج3 ص 220 و221.


وفی كنز العمال ج11 ص 307 عن سعید بن یحیى الأموی فی مغازیه: أن الرسول أمر أبا بكر بأن یذهب لیقتله، فذهب فلم یجده فقال (ص): لو قتلته لرجوت أن یكون أولهم وآخرهم.













الصفحة 340


فقام، ثم رجع، فقال: والذی نفسی بیده لو وجدته لجئتك برأسه(1).


إشارات ودلالات الحدیث:


ولهذا الحدیث العدید من الدلالات والإشارات، نذكر بعضاً منها هنا، على سبیل الاختصار.


فنقول:


1 ـ إن هذه الروایة قد ذكرت: أن هذا الرجل، یتخشع، حسن الهیئة یصلی.. وقد أمر رسول الله (صلى الله علیه وآله) بقتل هذا الرجل بالذات، فلم یمنعه (صلى الله علیه وآله) ما كان یتظاهر به من عبادة وصلاح من اصدار الأمر بقتله حین كان مستحقاً لذلك.. وهذا یدل على أن العبرة لیست بالمظهر، وإنما بالجوهر.


وفی هذا السیاق بالذات جاء الحدیث الشریف فی مورد آخر لینهى الناس عن أن ینظروا إلى كثرة صلاة الرجل، وصومه، وطنطنته باللیل، بل علیهم أن ینظروا إلى صدقه فی الحدیث، وأدائه للأمانة.


2 ـ إنه (صلى الله علیه وآله) حین أمر أولئك الثلاثة بقتل هذا الرجل، لم یعط تفسیراً، ولا تبریراً لإصدار هذا الأمر، رغم أنهم قالوا له: إنهم رأوه یصلی، ویتخشع، وأنه حسن الهیئة.


____________



(1) كشف الأستار عن مسند البزار ج2 ص 360/361 والعقد الفرید ج2 ص404 وراجع: المصنف للصنعانی ج10 ص 155/156 ومجمع الزوائد ج6 ص 226 و227 والمناقب لابن شهر آشوب. 3 ص 187/188 عن مسند أبی یعلى وإبانة ابن بطة والعكبری وزینة ابی حاتم الرازی وكتاب أبی بكر الشیرازی وغیرهم. والنص والاجتهاد ص 93/94. وفی هامشه عن الإصابة ج1 ص484 وحلیة الأولیاء ج2 ص317 وج3 ص227 والبدایة والنهایة ج7 ص298 والغدیر ج7 ص216 والطرائف ج2 ص429.













الصفحة 341


الأمر الذی یعنی: أن التعامل مع مقام النبوة والإمامة المعصومة لابد أن یكون من موقع الطاعة والانقیاد والتسلیم. (ثم لا یكن فی أنفسهم حرج مما قضیت، ویسلموا تسلیما)(1).


تماماً كما كان الحال بالنسبة لإبراهیم (علیه السلام)، حینما أمره الله بذبح ولده، حیث لم یكن منهما (علیهما السلام) سوى التسلیم والانقیاد لأمر الله تعالى، والرضا بقضائه، دون أی تردد، أوشك أو حیرة، أو تساؤل، مهما كانت طبیعته ونوعه، ومداه.


وبذلك یكون الله سبحانه قد جسد لنا فی إبراهیم وإسماعیل (علیهما السلام)، میزة التزامهما جانب الصبر والثبات فی مواجهة الغیب المرتبط بالله سبحانه، من موقع الإیمان والیقین بهذا الغیب. كما أراده الله سبحانه لكل مؤمن یتقی الله سبحانه: (هدى للمتقین، الذین یؤمنون بالغیب، ویقیمون الصلاة، ومما رزقناهم ینفقون)(2).


3 ـ تحدثت الروایة المتقدمة: أن الرجلین الأولین لم ینفذا أمر رسول الله (صلى الله علیه وآله). ولم یكن لدیهما أی مبرر لذلك سوى أنهما وجداه یصلی. مع ملاحظة:


أ: أنه لم تستجد أیة حالة جدیدة تستدعی أن یراجعا رسول الله (صلى الله علیه وآله) فیها.


ب: أن النبی (صلى الله علیه وآله) كان على علم بصلاته وخشوعه، وقد أصدر أمره لهما بقتله بناءً على نفس هذه الصفات والحالات التی اخبراه هما بها، وأطلعاه علیها.


____________



(1) سورة النساء الآیة 165.


(2) سورة البقرة، الآیة 3.













الصفحة 342


ج: إن عدم تنفیذ أمر رسول الله، الذی یعلم الجمیع أنه لا ینطق عن الهوى إنما یعنی أن ذینك الرجلین كانا فی شك من كاشفیه قوله (صلى الله علیه وآله) عن الواقع والحقیقة. مع ملاحظة أن نفس إصدار النبی أمره لهما بقتله یكفی لإدراك أنه (صلى الله علیه وآله) یتعامل مع هذا الأمر من موقع العلم بالواقع إما على أساس تلقی ذلك من جبرائیل عن الله سبحانه. أو على أساس الاطلاع علیه بصورة قاطعة. أی أنهما قد رأیا أن أمر النبی (صلى الله علیه وآله) لم یكن مستكملا لشروط الإنفاذ.


4 ـ أن النبی ـ كما صرحت به الروایة ـ قد قال لعلی (علیه السلام): «بلى أنت تقتله إن وجدته».


وهذا یعنی: أنه (صلى الله علیه وآله) كان یعرف علیاً (علیه الصلاة والسلام) حق المعرفة، إنه یعرف میزاته وخصائصه، وبماذا یفكر، وكیف، وبأیة روحیة یتعامل مع القضایا.


ولاجل ذلك نجده (صلى الله علیه وآله) قد أخبر عن أمر غیبی رآه (صلى الله علیه وآله) وسلم بعین الیقین، متوفراً فی علی (علیه الصلاة والسلام)، من خلال معرفته بیقین علی (علیه السلام) بصحة وواقعیة كل ما یصدر عن رسول (صلى الله علیه وآله)، وبأنه لا ینطق عن الهوى. وذلك من موقع ایمانه الراسخ والعمیق بنبوته (صلى الله علیه وآله).


5 ـ إن هذه الحادثة تفیدنا: أن هذا النحو من الاختبار العملی من شأنه أن یجسد النموذج الاسلامی الأصیل لكی یعرف الناس الفضل لذی الفضل، وسابقة ذی السابقة. ویصبح ذلك مقیاساً ومعیاراً یسقط من خلاله الكثیر مما یثار من شبهات وترّهات، فیما یرتبط بفضل علی، أو بفضل ومزایا غیر علی (علیه السلام)، بالقیاس إلیه صلوات الله وسلامه علیه.












الصفحة 343


ولا یبقى مجال للكثیر من الدعاوى العریضة، التی قد یسهل إطلاقها، ولا یستطیع من لا خبرة له ولا معرفة ان یواجهها بالوسائل التی تكشف الزیف، وتظهر ما فیها من افتئات، أو ما تحمله من مبالغات.


6 ـ إن قول النبی (صلى الله علیه وآله): «فاقتلوهم هم شر البریة» قد جاء على شكل ضابطة عامة قد نزعت ـ من خلالها ـ الحصانة عن كل أولئك الذین یبطنون الكفر والجحود والطغیان، ویتسترون خلف المظاهر الخادعة، فراراً من العقوبة لهم على ما اقترفوه من جرائم ومآثم.


وإن إظهارهم للتوحید، وممارستهم للشعائر الدینیة، لا یمنع من إنزال العقاب الصارم الذی یستحقونه بهم.


7 ـ إنه (صلى الله علیه وآله) قد اعتبر هذا النوع من الناس الذین عرفوا فیما بعد باسم «الخوارج» أنهم «شر البریة».


ولعل ذلك لأجل ان خطر هؤلاء على الدین أعظم من خطر غیرهم، لأنهم إنما یحاربون الدین باسم الدین، الأمر الذی یمكنهم من خداع ابنائه، ویجعلهم أدوات طیّعة فی خدمة أغراضهم ومآربهم، وتقع من ثم الكارثة الكبرى، حیث یتولى أبناء الإسلام هدم هذا الإسلام، متقربین بذلك إلى الله، راجین مثوبته،وتوفیقه ومعونته، حتى لو كان ثمن ذلك هو تشویه تعالیمه، واستئصال وإبادة أهله و علمائه، وحتى أئمته (صلوات الله علیهم)، بدءاً من أمیر المؤمنین (علیه السلام) فكیف بمن عداه، وتلك هی المصیبة الأدهى والأمر، والأخطر والأضر.


8 ـ ونذكِّر القارئ الكریم هنا بما ظهر من النبی (صلى الله علیه وآله)، حیث رأیناه یخبر عن أمور غیبیة، حین أشار إلى أن علیاً (علیه السلام) لن یجد ذلك الرجل، وأنه لو وجده لقتله وبظهور أولئك الذین یمرقون من الدین












الصفحة 344


مروق السهم من الرمیة، مع بیان بعض حالاتهم، وما یكون منهم، بالإضافة إلى تحدید التكلیف الإلهی الموجه للأمة تجاههم، علماً بأن ظهور صدقه (صلى الله علیه وآله) فیما أخبر به علیاً (علیه السلام) من أنه لن یجده یأتی بمثابة الدلیل الحسی على صدق خبره (صلى الله علیه وآله) الآخر عن «الخوارج»، الذین سیبتلی بهم علی (علیه السلام) أیضاً.


9 ـ وآخر ما نشیر إلیه فی هذا المجال هو أن رسول الله (صلى الله علیه وآله) قد أمر بقتل ذلك الرجل، فی حین أنه لم یظهر منه ما یستحق به القتل، بل ما ظهر منه یشیر إلى ضد ذلك، لأنه كان متخشعاً، حسن الهیئة، یصلّی.


وتشبه هذه القضیة فی سیاقها، وفی عناصرها ما جرى للعبد الصالح مع موسى، حینما قتل العبد الصالح ذلك الغلام. الذی عرف منه أن یضطهد أبویه إلى درجة أنه كان ثمة خشیة من أن یرهقهما طغیاناً وكفراً..


ومن الطبیعی أن یكون هذا الأمر الصادر من الرسول الكریم (صلى الله علیه وآله) بقتل ذلك الرجل مما یدخل فی هذا السیاق، حیث یكون (صلى الله علیه وآله) قد اطلع على واقع هذا الرجل الذی استحق معه أن یواجه هذه العقوبة العادلة على بعض ما صدر منه من جرائم، وما ارتكبه من مآثم وعظائم عن طریق الوحی أو عن طریق آخر، لكن المطلوب على أی حال هو تصدیقه والتسلیم والخضوع له. ولم یكن ذلك إلا من علی (علیه السلام)..


ونقتصر هنا على هذا المقدار من القول:


عصمنا الله جمیعاً من الزلل، فی الفكر، وفی القول، وفی العمل، إنه ولی قدیر، وبالإجابة حری وجدیر.












الصفحة 345